وكما ذكر نبينا وقدوتنا عليه الصلاة والسلام أن الصبر على المصائب إنما يكون عند حدوث المصيبة وليس بعدها، والصبر فى حد ذاته ليس بالشئ المضنى لفاعله ولكن الاختبار الحقيقى يكون بالمصابرة والمداومة على الصبر، فالصعوبة فى الديمومة تكون إما لفتور يصيب القلب أو لازدياد صعوبة الابتلاءات لقوله صلى الله عليه وسلم: يُبتلى المرء على قدر دينه فإن كان فى دينه صلابة شُدِّد عليه وإن كان فى دينه رقة خفف عنه.
ولما كانت الاستمرارية هامة أمرنا المولى عز وجل قائلاً فى كتابه العزيز: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون"، فالمصابرة هى مواصلة الصبر.
وفى رحلة الصبر تصادف تربية ربانية لا يعدلها شئ، فالصبر يعظم إيمان المرء بالغيب ففيه يزداد يقين المرء بخيرية أقدار الله "إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ" حتى وإن كانت فى ظاهرها مؤلمة ومحزنة، وفيه أيضاً يقين بما أخبرنا به الله عز وجل من أنباء الغيب بأن العاقبة للمتقين والتمكين للمؤمنين والاستخلاف للصالحين فحتى وإن تأخر تحقق الوعد فلابد له وأن يتحقق يوماً ما "وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا". أما عن الإيمان بما أنزل على نبينا وما أُنزل على سابقه من الرسل فيعظم أيضاً لما يدركه المرء من وجوب تحقق التمحيص وأن كل مؤمن ممن سبق من الأقوام ابتُلى ابتلاءات شديدة ليُعلم قدر إيمانه وصدقه: "أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ" وأيضاً قوله تعالى: "أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ۖ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِين"، فهذا التمحيص قد حدث ويحدث وسيحدث لكل من قال آمنت وهو من تمام تصديق ما أنزل على نبينا ومن قبله من الرسل.
الإيمان بالآخرة هو أيضاً من محطات رحلة الصبر، ففى رحلة الصبر نتعرض لابتلاءات نؤمن فيها بالثواب والعقاب، فالثواب لمن صبر وأصلح والعقاب لمن قنط وأفسد، ونؤمن بجمال عاقبة المؤمنين الصادقين من جنان فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، كما نؤمن بسوء عاقبة الظالمين المفسدين من نار لهم فيها عذاب مقيم، فكلٌ يجزى على قدر عمله عدلاً من الملك الحق، ولا يظلم ربك أحداً.
الإيمان بالله وهو مالك كل شئ الذى حاشاه أن يخلق كل ما يحيط بنا عبثاً ولهواً، ففى رحلة الصبر تتأمل أسمائه وصفاته سبحانه فتوقن بها تمام اليقين فترى لطفه بأن يتخلل المحن منح من لدنه، وترى رحمته بأن يُذَكِّر من يعلم فيه خيراً فتكون بذلك نجاته من عذاب الله، وترى عزته وقدرته على من ظلم وتجبر فيهلكهم بأدنى جند من جنوده لتكون آية لمن خلفهم بأن الله وحده هو ملك وحاكم هذا الكون وليس منا ولا بيننا إلا هو عبد له سبحانه كما فعل بالنمرود عليه لعنة الله فأهلكه ببعوضة فى أذنه وقد كان واحد من أعظم ملوك الأرض، أفلا يتعظ مجرموا هذا الزمان الذين لا يعدلون من سبقوا كما أخبرنا المولى عز وجل: "أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِم مِّدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِين".
يتبع .....
تعليقات
إرسال تعليق